السبت، 7 أبريل 2018

نِيَّة؛ في العمارة التّوْقيّة


*
هنا لن تقرأوا سردَ سيرة، ولا حبكةً روائيةً مريرة، ولا معانيَ مبتذلةً في قصيدةٍ حقيرة، ولا ماضٍ سحيقٍ ابتدع مخيالُنا العربي أساطيرَه، من خلال تصميم هيئته، وخلق آلهته، وتحديد إحداثياته، ونسج حواراته، وإنشاء مبانيه وعماراته. هنا تقرأون بضعاً من التفكير، مولود التجارب، ووالد التنظير، عسى أن يلهمنا اللطيف الخيير، ضياءً ونورا، وفسحةً وسرورا، إنه على كلّ شيءٍ قدير.

قُرّائي الأُوَلُ في هذا المجال، لقد لبثت فيكم أعواماً طوال، ناهزت لما تركتكم تركاً مكانيّ، الثّلُثَ أو ما يزيد مما انقضى حينئذٍ من زماني، لحِقت فيها أقدم الطلاب حتى لحقتموني، بل حتى تجاوزتموني، لحقت بـ(KASA)** بكراً يتيمة، ولحقت بتوأمتها جديدةً وقديمةً ونديمة، لحقت بتأسيس هذه المجلة الغرّاء، التي ضمّت خيرةَ الزملاء، القدامى منهم والجدد، في كلّ إصدارٍ منها أو عدد، والتي استنّت بسنة المعمار النجيب، في البحث السّبر والتنقيب، عن أحدث الأفكار، في فن وعلم التصميم والإعمار.

وما خُيِّلَ إلىّ -رغم ودّي- أن تقرأوا لي هنا رأياً أو اعتقاد، أو مقترحاً أو انتقاد، فيما يراه البعض عمارةً بديلة، وأراه عمارةً عليلةً رذيلة، يوصمون بها جهلاً او استحمارا! أو بغياً أو استكبارا، عمارتنا الأصيلة، حتى فاجأوني القائمون على مجلة (tsquare) بدعوتي لمشاركتكم هذا "الشوقَ الوجداني"، هذا "التوق العاطفي" للماضي.

لقد وجدتُني لمّا هجرت الدراسات الجامعية لتخصص العمارة لاجئاً إلى المطالعات والقراءات الحرة من مصادرها العربية، أنشد الحنين بأبيات من الشّعر أقول فيها:
رَكِبْتُ الْفِكْرَ وَالْأَفْكارُ مَوْجٌ|      أُقَلِّبُهُ عَلى ظَهْرِ السَّفينةْ|
وَفي الْمَرْسى خُطوطٌ قَدْ تَوارَتْ| بِدارٍ في زُقاقٍ أَوْ مَدينَةْ|
تُراوِدُني أَكابِرُها تِباعاً|         وَتَأْبى النَّفْسُ إِلّا أَنْ تَلينَ|
وها هي النفس قد لانت، وخبيئتها بانت، مشتاقةٌ إلى أهل الدار، معمارةً ومعمار، لتلقي قولها إلى ما قيل، في العمارة من الجميل أو الثقيل.

إن الماضي، لحظةٌ فنت بميلاد أخرى تفنى، فحمّلت الأخرى على نفسها جريرة هذا الفناء، فأقامت مزاراً يواري سوءتها، لعل اللحظة التي بعدها تصنع بها ما صنعت بغيرها، فتناسلت من هذه اللحظات بعضَ الذكريات، لتشكّل القضبان التي اصطفّت حول كلّ مزار، صانعةً أسواراً أمام الأسوار.

والحقَّ أقول لكم، لست بصدد الخوض في العمارة التقليدية الكويتية، فلا أشك لوهلةٍ مللكم من التطرق لهذا الموضوع الذي قُتِلَ جمعاً وتفريقا، وأُشبِع بحثاً وتعليقا، لكن ذاك الشعور العجيب الذي يلازمني في مشاهدة تلك المباني القديمة، ما تهدّم منها والسليمة، والذي لا ينفك يجذبني إليه انجذاب العاشق لعيون معشوقته، والسهم المارق لاصطياد رمّيته، شعور البحث عن حياة الأجداد، والبعث للأمجاد، والتزام الطُوِيَّة، وتطوير الهُوِيَّة.

لقد أنجدتني فكرةٌ من الفشل في العرض التكميلي النهائي للمقرر الخامس من مادة التصميم المعماري، والتي كانت تحت إشراف الدكتور محمد الجسار، لذا لا بد لهذه الفكرة أن تظهر للملأ؛ إذ سألت جدتي -وهي المولودة في سنة المجلس كما يسميها الكويتيون القدامى- عن طبيعة حياتهم، وأشكال بيوتهم، فأخذت قرطاساً وقلما، وخطّت خطوطاً ورسمت رسما، وبدت وكأنها تكتشف بيت أبيها على الورق! تذكّرت حينها طفولتي، حينما كنت أجمّع قطع التركيب في أشكال، فهل يا ترى هكذا يفعل المعمار الكويتي القديم؟ يرسم الفراغات في خياله ويركبها على الرمال؟!

أعلم أننا كشعوب نامية لم نصل بعد، ربما، للمرحلة التفكيكية التي تجاوزها المتقدمون، إذ أن فلسفة ما بعد الحداثة لا زال تشكّل قيمنا ومفاهيمنا الحياتية، لكن القفز الزماني، وتَخَطّي أو حرق المراحل، سمة إنسانية. وصل المتقدمون إلى تجريب النظرية التركيبية. متابعةٌ سريعةٌ للمسلسلات والأفلام الأجنبية تُظهِر تعمد تجميع الشخصيات في قصة واحدة. ألِس في بلاد العجائب، تزورها ياسمينة، فيختطفها جعفر رهينة، انتقاماً من علاء الدين، ليقوم الأقزام السبعة بإنقاذها، ويقايضوا بها بياض الثلج المغشي عليها بعد رؤية الوحش اللعين! هل مر عليكم عنوان الرواية التالية: "قيس وليلى والذئب"؟! أعتذر للرقيب إن ملك مقصّاً هنا، فهذه ليست دعاية، لأني لم أقرها أصلاً!

ما أود قوله بعد ديباجتي هذه أن أجسادنا تتأثر بحركة الزمن المستمرة واللانهائية، لكن أرواحنا ثابتةٌ مهما ضربتها معاول التغيير. والبنيان كالإنسان، كما عبّر المعمار الكويتي (جعفر إصلاح)(١) الفنّان، لا يُستَبان، ولن يمدك بالبيان والتوضيح، ما لم تمرّر عليه مشرط التشريح. والروح فيه الأصل، ومصدر العقل، لا تبلغ فيها الجادة، إلا بإلحادك بالمادة. والأرواح تتآلف وتتخالف، وجُعِلت قبائل وشعوب، وأقامت عهوداً ومعاركاً وحروب، فتمايزت جواهرها، وتفردت مظاهرها، ولن يُصلِح العطّار، ما أفسدته الدهور والأقدار. ولا شك {.....الروح من أمر ربّي.....}، إلا أنكم {.....أوتيتم من العلم.....} ولو قليلا.


أدعوكم، وإن كانت دعوتي تمر عبر بوابة التجريب، للانتقال إلى عمارة التركيب! وهي تتطلب العيش في حالة خاصة، لتصميم كل حيّزٍ على حدة، ثم جمع الأحياز في محيط الخلاء المُختار، والربط بينها كما صُمِّمَتْ، ثم إجراء التعديل المطلوب إن كانت هناك حاجةٌ لذلك. ولن تتعارض هذه الطريقة مع ما اعتاد عليه فن وعلم العمارة من خطوات، كتحليل الموقع والحاجات، ودراسة المساحات، وتقسيم المطاقات، وانتقاء البدائل والاقتراحات.

تذكرت في عرض مشروعي مبدأً كنت قد التزمته في تعريف الهُوية وهو: أن الهُوية ليست الصورة القديمة، بل هي الزاوية التي منها، والطريقة الني بها، تم التقاطها. كان العرض النهائي الأخير، فقلت: إن هُويتنا المعمارية الكويتية ليست جدراناً طينية، تحمل عوارضاً خشبية، وسقوفاً جريدية، بل هي كما فعلت جدتي بالضبط، توقٌ نابعٌ من دواخل الإنسان، لاكتشاف المكان، وتركيبه في زمان. فـ "العاطفة والحنين هما القوتان الدافعتان اللتان تقفان خلف كل مجهودٍ وابتكارٍ بشريٍّ مُلهِم مهما تخفّا هذان الحافزان وتستّرا وراء مختلف الأقنعة وأشدِّها غرابة."(٢)

في الختام، وبعد أن طال الكلام، الشكر أهديكم، يرافقه اعتذار، للصبر، بل للاصطبار، فبلوغ خاتمة المقال، كاد يكون من المحال، وصدقوني لو أقول، بأن ذهني قد نسى درباً سلكته للوصول، لكنه شرحٌ يطول، ولطالما تمت به كل الفصول، واختياري من النقول، فالحمد للمنّان على إلهامي، وعلى من اتبعوا هداه سلامي.

هوامش:
* نُشر المقال -قبل إعادة تحريره وإدراجه هنا- في المجلة المعمارية (tsquare) عدد أيلول/ سبتمبر لعام ٢٠١٥ وهي بإدارة مجموعة من طلبة كلية العمارة بجامعة الكويت. 
** (KASA) جمعية الطلبة المعماريين الكويتية - Kuwait Architecture Student Association.
(١) "فالجسد بيت الروح وإذا لم تحاول كشف سر هذا الجسد،الذي تسكن فيه روحك، فلن تستطيع أن تفهم ما هي العمارة أو تصبح معمارياً مميزاً" جعفر إصلاح في مقاله بعنوان (الجونة معزوفة معمارية) بمجلة العربي: العدد ٥٨٤ - باب الفنون.
(٢) مقال (الدين والعلم) - آيْنِشْتايْنْ : ١٩٣٠.

ليست هناك تعليقات: