الأحد، 26 أكتوبر 2014

لماذا "يجب" أن أكون معماري؟

سؤال توارد إلى ذهني منذ أن قررت ترك استكمال تعليمي الجامعي في مجال العَمارة! أقول "يجب" ولا أقول "أود"، لأني قد تجاوزت مرحلة الودية تلك بعد أن وَلِجْتُ فعلاً  في دراسة التخصص من خلال قبولي طالباً في جامعة الكويت. ولا أقول "لزاماً عليَّ"، لأنني مررت خلال دراستي بشعور الإلزام النفسي الذي لم يُؤتِ أُكُلَهُ، بل على العكس، كانت له ردة فعل نفسية انعكاسية سلبية!.

أقول "يجب"، لأن الدافع الذي يقودني منذ أن تركت الجامعة حقيقي الوجود، بل أحق من كل ما كان يدفعني لاجتياز المقررات الدراسية، أو على رأي أهل الفلسفة هو دافع "واجب الوجود".
لم أكن لأطمئن لهذا الدافع، لخشيتي من أن يكون ردة فعل كغيره، فرُحْتُ في رحلة كالتي ارتحلها الإمام الغزالي بحثاً عن الحقيقة، لأعرف هل دافعي من المحسوسات، أم من المعقولات التي تبطل المحسوسات، أم من الأحلام التي تبطل المعقولات، والأحلام أوهام وخيالات ليس لها من الواقع صلة! أم أن دافعي نور قذفه الله في القلب! فهَلُمّ معي قارئي لمراجعة سفر الذاكرة.

أتممت تعليمي الثانوي ضمن نظام المقررات - تشعيب الرياضيات في حزيران/يونيه بنسبة تجاوزت الـ٩٠٪. أغرتني نسبتي بالتوجه لوزارة التعليم العالي أملاً في ابتعاثي خارج البلاد، فالمشهور أن التعليم في الصين مطلوب! قُبِلْتُ ولله الحمد في تخصص هندسة تكنولوجيا الأشعة! رغم أن رغباتي الثلاث الأولى كانت: ١-العَمارة ٢-الهندسة المعمارية ٣-الهندسة المدنية! ولما سألت عن إمكانية التحويل بعد الابتعاث أُجِبْتُ بالنفي، فتوجهتُ لجامعة الكويت التي قبلتني فورياً في كلية الهندسة والبترول - تخصص العَمارة.

هل ذكرت لكم أني اخترت الرياضيات تشعيباً؟ حيث أن نظام المقررات كان تخصصياً نوعاً ما، إذ يوزع الطلبة آنذاك حسب رغباتهم في تخصصات متفرعة بين العلمية والأدبية. وكان يسمح لنا باختيار مادتين حسب رغبتنا، ووقعت اختياراتي على مادة الرسم التشكيلي والرسم الهندسي، كما شاركت في مسابقة على مستوى وزارة التربية للرسم الهندسي حصلت فيها على المركز الرابع! إخترت الرياضيات لأنها أم "الجيومتريّة - هندسة الأشكال". كان اختياراً في الحقيقة منذ الإختبارات النهائية للسنة الأخيرة من المرحلة المتوسطة! كانت تستهويني استنتاج البراهين والنتائج من المقدمات المتوافرة في الأشكال المثلثة التي تتوسط الدوائر!.

ربما تسأل/ي عن ماهية الشيء الذي وجهني نحو هذا التفكير، وهو تساؤل مشروع، والإجابة أن والدي أطال الله في عمره قد منحته الدولة أرضاً ليبني عليها منزلنا، وكنت كأي بكر لأي والد في هذه المرحلة العمرية، دائم المرافقة لوالدي، فأخذني مرة إلى مكتب استشارات معمارية، وشاهدت لأول مرة في حياتي شعوراً تبصره الروح لا العين المجردة! كنت البطل في المشهد المرئي المتحرك لرسوم الأطفال عندما تلقي عليه الجنية الصغيرة الغبار السحري، أصدقكم القول أن إله الحب كيوبيد قد نزل الأرض في تلك الليلة!.

هل هي القَدَرِيّة إذن؟ بالطبع، لكنها قدرية النتائج لا قدرية الأسباب. إذ لو تغيرت المشاهد إلى غيرها لأتتني بالنتائج ذاتها، لإن الأسباب مذكورة في الصفحات التالية من السفر.

رجع والدي مرة من رحلة تجارية من ماليزيا، كان جهاز الألعاب النِنْتِنْدو٦٤ يغزو الساحة، فأهداني إياه أبي، وكان ماريو الخارق هو اللعبة المتوفرة في الجهاز. بالرسم الثلاثي الابعاد يدخل ماريو قصر الأميرة دُرّاقة، ولا زلت أحتفظ بمخططاتي التي أحاول فيها أن أوزع فراغات القصر، كان ذلك قبل عام ١٩٩٨!.

كانت أجمل ألعابي نوع من الطين أخلطه بالماء وأضعه في قالب ثم أتركه يتماسك تحت أشعة الشمس، ثم ألصق القطع بمادة لاصقة لأكون منزلاً يظهر شكله على غلاف اللعبة!.

أهداني أبي كتاباً عن الرسم الهندسي الزخرفي. تطبيق ما جاء في الكتاب كان من أمتع اللحظات في حياتي!.

كُلِّفْتُ مرة من أستاذ العلوم بعمل مجسم لمنزل، وقد ساعدني أبي في تقطيعه وتركيبه من الخشب والمسامير والغراء اللاصق!.

وفي بورتسموث، إحدى قرى لندن، كان والدي مبتعثاً هناك وكنا نزوره في عطلة الصيف. كان يعيش في منزل خشبي بمساحة ٥ أمتار في ٧ أمتار من طابقين. كان في المخزن أسفل الدرج صندوقاً من الورق المقوّى. فصنعت منه قلعة ببوابة مربوطة بحبال حتى تُفتح وتُغلق!. كنت في المرحلة الإبتدائية حينها.

تم أسر والدي أثناء الغزو العراقي، فذهبنا إلى المملكة السعودية ومنها إلى مملكة البحرين. ألجأتنا الحكومة البحرينية مشكورة في منازل خشبية في حي من الأحياء يسمى عوالي. في الحديقة الخلفية كنت وبنات خالي البكر نتابع مسير النمل. وكنا نحفر الأرض باتباع ذاك المسير لنشكل جسوراً وأنفاقاً وشوارع. وكان بين حديقتنا وحديقة جارنا الإنجليزي فتحة اغلقها بطابوق أحمر، وكنا نسرق الطابوق لنكمل ما بدأناه في مدينة النمل. كانت تلك المدينة حول شجرة استطعنا أن نبني عليها سلماً يؤدي إلى كوخ أعلاها.

لقد قدم لي القدر أسباباً احتفظ بها في تلافيف المخ مما يسمونه اليوم رواد علم الأعصاب وعلم النفس بالذاكرة، وقد أسميته سفراً أي كتاباً. ولو لم يأتِني القدر بتجربة تصميم منزل والدي لأتاني بغيرها من التجارب، لأنه هو ذات القدر الذي قدّم لي الأسباب التي تقرأون، وهو وحده المتكفل بالنتائج.

ربما يكون سفر الذاكرة مليئ بالصفحات غير ما تقرأون، لكن للذاكرة شروط وأحكام. وأعتقد أن مما تقدم فيه شفائي من الشكوك والأسقام.

لذلك "يجب" أن أكون معماري.