نُشر النصف الأول من هذا المقال في صفحة إضافات بجريدة الجريدة بعنوان (وحيٌ أميري) في عدد يوم الجمعة الموافق ١٣ آذار/ مارس ٢٠٢٠، فيما امتنعت عن نشر النصف الثاني، لذلك أستغل هذه المساحة لنشره كاملاً.
بتاريخ ٢٦ نيسان/إبريل ٢٠١٠م، التقت صحيفة (فرانكفورتر ألغماينه تسايتونج) الألمانية بسمو الأمير، مستغلة زيارته الأولى - بعد توليه سدة الإمارة- لجمهورية ألمانيا الاتحادية، لإجراء حوار معه، وقد نشرته وكالة الأنباء الكويتية (كونا) في حينه بموقعها الرسمي. وتطرقت إحدى الأسئلة لموضوع الديموقراطية الكويتية، مستفهمةً عن علّة الجمود السياسي في الكويت، وما إذا كان عائداً أصلاً إلى فشل النظام البرلماني. جاء جواب سموّه مباشراً، مؤكداً أن "البرلمان قد خيّب آمال الشعب الكويتي"، وعندما استفسرت الصحيفة عن السبب، قال سموّه: "خطأ البرلمان في أداء وظيفته يعود إلى الدستور الكويتي لأن هذا الدستور يمزج بين النظامين البرلماني والرئاسي ولذلك فلا هو رئاسي صرف ولا برلماني بالمطلق وإنما هو يجمع بينهما معاً وهذا الوضع يؤدي إلى تداخل السلطات التشريعية والتنفيذية وهذا ينتهي إلى تنازع بين السلطتين لأن كل منهما تسعى إلى تقليص صلاحيات الأخرى" انتهى الاقتباس.
توحي إجابة سموّه بأن الأمة الكويتية ستكون أمام تجارب سياسية جديدة تعرّض دستور الدولة الصادر سنة ١٩٦٢ لاختبار حقيقي يقيس قدراته أمام طموحات الجيل الشبابي الصاعد في ماهيّة العلاقة المبتغاة بين الحاكم والمحكوم. وبدءًا من ندوة (إلّا الدستور) الثانية التي أقامها بعض أعضاء مجلس الأمة في ديوانية زميلهم الدكتور جمعان الحربش بتاريخ ٨ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٠، وما تلاها من أحداث، مروراً عبر فترة "الحراك" -الموازي لأحداث الربيع العربي الأول- الذي قادته المعارضة الكويتية تعبيراً عن رفضهم للتدخلات الفردية في تغيير النظام الإنتخابي، وإلى هذه اللحظة، لم تحسم السجالاتُ السياسية الموقفَ من النظام الخليط المتبنّى دستورياً لشكل الإدارة السياسية.
في هذا النظام (الخليط)، يعبّر مجلس الوزراء عن إرادة أميرية منقوصة على اعتبار اللازم الدستوري في أن يختار الأمير وكيلاً شعبياً واحداً على الأقل من مجموع الوزراء الذين يمارس صلاحياته بواسطتهم، كما يعبّر مجلس الأمة عن إرادة شعبية منقوصة على اعتبار اللازم الدستوري في أن يكون الوزراء جميعهم أعضاءً فيه، وهو قد جاء بهذا الشكل تطبيقاً لنظرية (الديموقراطية الكويتية) التي لم تفصل تماماً بين سلطات الدولة، إنما جعلت المقام الأميري عقدةً بينهم، فالأمير يمثل جانباً من سلطة التشريع والرقابة والمحاسبة مع مجلس الأمة، ويمثل جانباً من سلطة التنفيذ مع مجلس الوزراء، وباسمه يمارس القضاء سلطته.
***
أما النظام البرلماني، فهو يعبّر عن إرادة شعبية كاملة في مجلس الوزراء كما في مجلس الأمة، على اعتبار أن الأول فرعٌ عن تصوّر الثاني، فيختار الشعب وكلاءه الذين منهم -ومنهم فقط- يختار الأمير وزراءه. لذلك، يحول هذا الشكل من الإدارة السياسية دون ممارسة أفراد أسرة الحكم لها، إنما يكتفي بتحقيق المكانة الرمزية لهم عبر المقام الأميري السامي، نأياً بهم عن التجريح الذي سيمس -شئنا أم أبينا- كل من أراد الاشتغال في مجال السياسة. وبالإمكان -إذا اتفقت الأمة على درجة من المساواة بين هؤلاء الأفراد وباقي المواطنين- أن يجربّوا حظهم عبر الانتخابات للوصول إلى السلطة شريطة أن يتنازلوا عن طموحهم في الإمارة نأياً لسمو المقام أن يطاله أحد المجرّحين منهم.
بالمقابل، يفصل النظام الرئاسي تماماً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما يدمج منصب الحاكم مع رئاسة الوزراء، ويعرضه للانتخاب المباشر إما من قبل المواطنين أو من قبل وكلائهم السياسيين، مانحاً إياه الإرادة الكاملة في اختيار من يشاء من معاونين لقيادة مفاصل الجهاز التنفيذي، والذين يكونون محاسبين من قبله وحده فقط. حينها يُلغى تأثير الكتلة الوزارية في مهام التشريع والرقابة والمحاسبة، كما يكون رئيس الدولة -دون غيره من معاونيه- مساءلاً سياسياً أمام مجلس الأمة. وبالإمكان -باتفاق الأمة بلا شك- أن يحافظ على صفة التوارث باختيار نائبٍ للحاكم من أسرة الحكم، وبنفس الآلية التي بها يُختار الحاكم نفسه.
وفي الحين الذي يتبنّى طيفٌ واسع من الفِرق في الكويت سواء الكتل الاجتماعية أو الطبقات المهنية أو الاتجاهات الفكرية أو الطوائف الدينية أو الجماعات السياسية، لاختيار النظام البرلماني، يعمل الديوان الأميري -وهو المؤسسة السياسية الرسمية لأسرة الحكم- على تفريغ مجلس الوزراء تدريجياً من سلطته منذ استلامه لمهام وزارة الأشغال في تنفيذ مشاريع التشييد والإنشاءات والإشراف عليها، لحين تدخلّاته عبر مستشاريه في تزكية أسماء المرشحين للوظائف القيادية والوسطى، فيميل "عملياً" -سواء عن تدبير سابق أم صدفةً- ناحية شكل الإدارة السياسية الرئاسي. وربّما فُطِرَ أبناء أسرة الحكم على ذلك، فمحاضر لجنة صياغة الدستور في المجلس التأسيسي ما تزال تحتفظ برأي ممثلهم آنذاك، الشيخ سعد عبدالله سالم مبارك الصباح رحمه الله، للتوجه ناحية هذا الشكل من الإدارة السياسية.